عن الطائفية



 

مع كل نقاش عن الثورة وأسبابها ينبري ذلك الشبيح بين قوسين بعبارته المعتادة والمتوقعة "ثورة تكفيرية، طائفية، بدأت بشعار العلوية ع التابوت والمسيحية على بيروت" ! 
طبعاً هي ذات الأسطوانة المشروخة منذ بداية الحراك السلمي 2011، وأي أنسان عاقل "هومو سابينس" يعرف ان هذا الكلام كذب بكذب وتلفيق، وكل من يقول هذا الكلام هو "كذاب" وغير سوّي، أو مغفل او مُغيب"، بعد كل ماحصل أتصور أن كل شئ واضح. 

منذ اليوم الاول للثورة يتحدث النظام عن الجماعات التكفيرية ! في محاولة منه لشيطنة الثوار، ونعرف اليوم جيداً من هو الطائفي والمجرم، ونحن في شرق سوريا بالذات يتم رمينا دوماً من قبل بعض الشبيحة بعبارات عنصرية قذرة، تتهمنا اننا قاعدة وتكفيريين ! .. ويصادفني هذا الكلام كثيراً في مواقع التواصل، وبالذات من منابر الساحل المشمس. 

عموماً في شرق سوريا وليس مبالغةً، وليس لأنهم أهلي، لكن شعبنا طيب جداً، وبسيط، وكريم لدرجة أننا لانمتلك فنادقاً إلا في المدينة وانشأت حديثاً لأستقبال الوفود الرسمية بداية، فمنازلنا مفتوحة لكل ضيف، ولايعرف أهلنا الطائفية، كن من تكن، فهم اللذين أنبروا وأحتضنوا نساء واطفال الأرمن بعد الأبادة التركية مطلع القرن التاسع العشر، وربوا أطفال الأرمن مع اطفالهم، ولم يجبروا احداً على الإسلام، واليوم تجري دماء الأرمن بعروق معظم أهالينا، نتيجة المصاهرات، ولازال اجدادنا يتناقلون الحكايا نقلا عن ابائهم حول تلك الاحداث، وشخصيا لي جدة ارمنية من جهة والديّ "جدة جدتي"، لم تحصل حساسيات ابداً في دير الزور او الرقة بين المسلمين والمسيحيين، بل كانت علاقة ود جميلة، رأيتها بنفسي في الجامعة كأول احتكاك مباشر مع مسيحيين، فقد درست مع شباب وشابات من الارمن، والسريان بدير الزور، كلنا كنا ديريين، ولم ارى فرقاً او اسمع بأذني مسبة او كلام جارح !

المجال لايسع لمزيد من التفاصيل، فالحديث طويل، ولو تحدثت عن مدينة دير الزور وريفها وتعاملهم لن انتهي، ليس مديحاً بل هي حقيقة، وافخر جداً اني من هنا، طبعا المسيحيين متواجدين في دير الزور منذ القدم، ومجيئ الأرمن جاء لاحقاً، اساسا اصل المدينة "دير مسيحي سرياني، وقبله ارامي وفيها اقدم كنيسة منزلية بالعالم".

في مدينة البوكمال كمثال، عاش المسيحيون جنباً لجنب مع المسلمين، بداية القرن 19 توافدت عدة عوائل من الموصل، ومن ماردين، ومن الأرمن، وقام اهل المدينة انفسهم بالتشارك مع المسيحيين، ببناء الكنيسة الوحيدة في المدينة وسموها كنيسة القديس يوحنا عام 1936، وتم افتتاحها عام 1940.
ولاحقاً هاجر من هاجر مع سائر البوكماليين، ولم يتم تسجيل اي حادثة أو مشكلة بين مسيحي ومسلم في البوكمال، ومنذ يومين اشاهد كثيرا المشادات والمهاترات حول قضية الترحم على 
الصحفية #شيرين_أبوعاقلة، تلك القضية التي أخذت حجما اكبر من حادثة اغتيالها، وضرب نعشها من قبل عصابات ومرتزقة الأحتلال الصهيوني. 

 عادت بي الذاكرة لحادثة وفاة السيد "اسحاق كولوكوف" اواخر العام 2020، يومها نعاه كل اهل البوكمال في شتاتهم، لم يذكر احد هل يجوز الترحم عليه أم لا .. عاش ابو اسحاق في البوكمال، وافتتح عدة مشاريع، وكان يلبس الگلابية، ويأكل بيده، وتحولت لهجته الشامية، لشاوية، عاش اكثر حياته في البوكمال، فعائلة كولوكوف موجودة بالبوكمال منذ اكثر من مئة سنة، لكن شباب ابو اسحاق كان في دمشق واللاذقية، واصول عائلته حسب ماقال روسية وفدوا في القرن 17 للشام، نعاه يومها جميع اهل البلد، واتذكر يومها بوست نعوة في فيسبوك لصديق لي من البوكمال، وصل عدد المعزين البوكماليين بوفاة الرجل لأكثر من 700 شخص، القضية هنا قضية موّدة وعشرة عمر، واحترام، وكما يقال " ازرع طيب واحصد طيب".

البوست في الصورة مثال فقط من صفحة شاوية عامة. 


وخلال السنوات الماضية وأبان حكم الأسد بدأت تتوافد إلينا جموع من الموظفين من الساحل من الطائفة "العلوية"، كانت اعدادهم تفوق باقي الموظفين في كل دائرة حكومية، حتى أبنائنا من أصحاب الشهادات كانوا يرعون الاغنام، ويعملون اعمالا شاقة، لإنعدام الفرص بالتوظيف، كلامي ويشهد الله ليس تحريضاً بل نقلاً لصورة مايجري، وكانت غالبية المعلمين في مدارسنا من العلويين، وانا درسني بعضهم كذلك في الإعدادية والثانوية، سكنوا معنا في منازل وهبها لهم اهل المنطقة، ولست هنا بحاجة لأن اتحدث عن كرم أهل الدير، حتى خبز التنور كان يصل للمعلمين كل صباح، وأما المعلمات كذلك فكن يحضين بأحترام الجميع وبحماية كل شباب المنطقة من عيون زائغة وكأنهن بنات العشيرة المقدسات، ولم يقل احد ان هؤلاء علويين .. !


كان المتعهدين الكبار علويين كذلك، والمسؤولين والمتنفذين، لدرجة ان ذو الهمة شاليش والذي مات امس كان يمتلك مع عائلته اراضي وعقارات في ديرالزور والرقة وبالمئات، ويعتبر مع مخلوف الناهي الاول والاخير لكل مناقصة او شركة او استثمار في كل سوريا، وكلها تمر عبر الرجلين، ويروى مرة ان "زهير شاليش"  كان يمتلك مجبل زفت في البوكمال ، واراد احد تجار المنطقة شراءه وكان مقربا من النظام، وعبر مئة واسطة وواسطة، تمكن من لقاء شاليش،وعند عرض الموضوع عليه، قال له زهير شاليش متسائلا ! 

أنا عندي مجبل زفت بالبوكمال !! 
والله ما عرفت غير منك!

كانت البلاد مزرعة لآل الأسد وحاشيتهم ببساطة. 


مضت الأيام وكان للصدفة مكان ان يكون منفذ كل مجزرة في سوريا من الطائفة الكريمة "علوي"، وفي دير الزور كان السجانيين، والقتلة علويين بالمصادفة، واستذكر هنا مجزرة الثلاثاء الاسود بدير الزور،في حيي الجورة والقصور يوم قضى (400) شخص اطفال ونساء وشيوخ، قتلا وحرقا على يد جيش الاسد، كان الجزارون بقيادة المقبور "عصام زهر الدين" والطائفي القذر علي خزام، والأخير كان يقولها علنا، انه يقتل هؤلاء البهائم في سبيل الله والأمام، حسب وصفه ..! 


تسربت خلال سنوات الثورة الأولى عشرات عمليات الاعدام والقصص المرعبة التي نفذها ضباط جيش الأسد، أتذكر في العام 2012 انتشار فيديو يوثق جريمة اعدام الشاب "منصور بلال العلي" ابن بلدة المريعية بريف دير الزور، والذي عُثر عليه مقتولا بأكثر من 10 رصاصات في حي الجورة، تبين لاحقا ان منصور قد تم اعدامه ميدانيا بعد ان تعرض للتعذيب من قبل مجموعة من العناصر غالبيتهم من الساحل، تم العثور على فيديو اعدام منصور بموبايل احدهم بعد اسره من قبل الجيش الحر، واعترف وقتها، كان المقطع قاسيا، منصور مجرد شاب بسيط وطالب هندسة مدنية بجامعة الجزيرة، ذهب ليبحث عن خبز لعائلته وقت حصار حي الجورة من قبل قطعان الأسد، لكنه ذهب ولم يعد، فقد قتله شركائنا بالوطن، والذي استضفناهم في منازلنا لسنوات. 

وفي العام 2017 نفذ الضابط بجيش الاسد "مياس جركس" اعدامات ميدانية في دير الزور ابان اقتحام جيش الأسد للمنطقة، وعرض مجازره علنا عبر صفحته في Facebook يومها تفاخر بقتل (5) اشخاص من دير الزور من بلدة الشميطية من عشيرة البوسرايا من بينهم شخصين ضريرين، وشخص معاق، في سبيل القرداحة كما قال وقتها. 



وللمصادفة مياس كذلك علوي، لازالت مشاهد مجزرة التضامن في بال كل سوري وكل انسان حر، وللمصادفة مرة اخرى فالجزار "امجد يوسف" علوي كذلك ومن سكان ذات الحي "التضامن" والذي قتل جيرانه واعدمهم بحفرة وحرقهم، كبار بالسن، ونساء، ولازالت صرخات ضحاياه تتردد بصداها في عقولنا، شاهدت الكثير من المجازر، وعايشت الكثير، وبدلت الكثير من ملابسي المضرجه بالدماء والتي احضتنت بها ضحايا القصف الهمجي لجيش الأسد، ومنهم من اعرفه ومن لا أعرفه، ومن بينهم أشخاص عزيزين جداً.




الفكرة ببساطة تتلخص بنكران الجميل، وكشف الوجه الحقيقي لبعض هؤلاء، تشعر من ممارساتهم وكلامهم ومجازرهم انهم يتلقون الحقد في منازلهم، ويشربونه مع حليب امهاتهم، لازالت تلك اللهجة وللاسف لها وقع سئ في نفسي، يختلط بالحزن والأسى والظلم. 

يبرر صديق لي منبع تلك الافعال بسببين، ان مصير العلويين مربوط بمصير الأسد، لذلك يقاتلون للبقاء ويذبحون، وفي الشق الموازي للتبرير، يستندون على مظالم تاريخية، واحقاد دفينة تُدرس لهم منذ الطفولة، عن السُنة القتلة، احفاد بيبرس، وصلاح الدين، وعمر بن الخطاب، والعثمانيين، هي قضية عقيدة تتجلى بكلام علي خزام وسيرته كــ ابرز مجرمي النظام والذي طار رأسه في دير الزور ، في المدينة التي قتل فيها اكثر من 1000 شخص، وتبعه زهر الدين وقتها، وكأنها ارض عاقلة تأبى الا ان تأخذ ثأرها من قاتلي ابنائها. 

برأيي ان التحدث عن التعايش مستقبلا في بلد كسوريا هو ضرب من ضروب الخيال، ليست مبالغة ولاتحريض، وهل ينسى المكلوم قاتل فلذة كبده ؟ 
هل ينسى تلك الحفرة، وتلك الزنزانة ؟ 

لن ينسى .. 


لازال بعض مسيحيي دير الزور يتواصلون مع جيران الامس من منافيهم، لم يتبق مسيحيين الا بضعة اشخاص اليوم في المحافظة، مع ذلك لم نراهم يلعنوننا ويصفونا بالتكفيريين، حتى يوم وفاة "ابو أسحق" المسيحي، ردت عائلته على تعليقات المعلقين فرداً فرداً، ببساطة لم ينكروا الخبز والملح عكس ذاك الأخر صاحب الحفرة الذي غدر بجيرانه الذين أكل معهم، وعاش لسنوات .. ذاك الأخر الغدار الحقود. 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

نظرة مبسطة لمجريات البادية

حصيلة البادية لشهر مارس 2024

تقرير البادية لشهر فبراير 2024

الفطر القاتل "الكمأة"

خلافة من ورق - التيارات المتصارعة داخل التنظيم

ملخص أحداث البادية الشامية خلال شهر مارس 2024