حقيبة


الحقيبة !


زين العابدين العكيدي 


في نهاية العام 2012 خرجت غالبية محافظة دير الزور عن سيطرة جيش الأسد، وباتت تحت سيطرة أبناء المحافظة من فصائل الجيش الحر، عاد العشرات من المنفيّين لمناطقهم آنذاك لدير الزور، وغالبيتهم من الذين واكبوا أحداث الثمانينات وتركوا البلاد بعد ملاحقات نظام حافظ، وكان معظمهم يعيش في العراق حيث فروا لهناك خشية من مذابح حافظ وشقيقه رفعت يومها، في منطقتي عاد أحد أولئك الأشخاص، كان في العشرينات عندما غادر دياره مُرغماً، أستقبله ذووه وأهل المنطقة بحفاوة منقطعة النظير، كان ذلك اليوم أشبه بعرس كبير في منطقتنا، أنتهت أيام الولائم والأستقبال والترحيب، وأخذ المُسن يمضي أيامه يتجول في أنحاء المنطقة، كنا يومها (7) شباب نجلس تحت أشجار التوت المطلة على نهر الفرات، كان يوماً ربيعياً لايُعكر صفوه سوى بعض رشقات الرصاص بين فينة وأخرى من الضفة المقابلة، أقترب منا ونهضنا جميعاً وسلمنا عليه، لم يكن يعرف أحداً منا، بادرت حينها بالترحيب به، وعَرفناه بأنفسنا، ثم فتحنا موضوع الثورة - حديث الشارع وقتها، كان يستمع لنا بشغف، ولم يبدي رأيه إلا عندما صمتنا، قال يومها كلاماً لم أنساه ولازلتُ أتذكرهُ، وأُذكر بهِ ݪحياناً صديقي الوحيد المُتبقي من أصحابي اؤلئك، والذي يعيش اليوم في ريف حلب نازحاً، أما بقية أصحابي وأخوتي الخمسة فقد أرتقوا جميعاً وأستشهدوا، (3) منهم على يد النظام، وأثنين على يد داعش. 


 تكلم الشيخ عندها مُتحدثاً عن أحداث الثمانيات، يوم كانت ذروتها في حماة، وطالت المذابح والإعتقالات المئات في ديرالزور، بحيث ان هناك عائلات كاملة أختفت وُقتل أبنائها على يد مخابرات الأسد، كان من جملة حديثه، توصيف لتلك الحقبة، «بدأ النظام بملاحقة كل شخص له علاقة بالمناهضين بالأسد وقتها، والتهمة كانت "أخوان" لم يقف الأمر عند ذلك فحسب بل كانت الإعتقالات همجية بشكل لايوصف، تم إعتقال كل شخص له صديق من المطلوبين، بل تم إعتقال العشرات بدون أي ذنب وعدد بعضهم من جيرانه ورفاقه»، تحدث أنه نجح بعبور الفرات سباحةً، كان متخرجاً للتو من كلسة الهندسة حسب قولهِ، أنتظر أياماً لتهدئ الأمور لكن لم تتوقف دوامة القتل وليالي الرعب، أستمرت الإعتقالات سنوات، وقتها أجتمع بثلاثة من صحبه بالمصادفة قرب البوكمال، وقرروا اللجوء للعراق، كون عشيرتهم كانت مقسومة بين الدولتين، وفعلا وصل لهناك وعبر الحدود، قال كلاماً لايُنسى، وݪراه اليوم ماثلاً فعلاً أمامنا، وواقعاً، قال: 
«جلسنا شهوراً ننتظر ثورةً أو أنقلاباً ضد الأسد، فسوريا كانت "أم الانقلابات" لم نفتح حقائبنا، ولم نشتري "علاقات" لنعلق ملابسنا في جدار الغرفة التي أستأجرناها مؤقتاً، كنا ننتظر العودة بشوق ومتخفزين، لم نفعل شيئاً، مضى عام، عامان، لم يتغير شئ، ثم عمدنا لشراء خزانة صغيرة للثياب، أخرجنا ملابسنا فعلاً من حقائبنا، وكانت دوماً تلك الحقائب جاهزة للسفر نحو الوطن مع ذلك، مضت (5) أعوام وساد سوريا الصمت، عرفنا أن الوضع ميؤوس، تفرقنا عندها، (يقول) ذهبت لــ بغداد وتركت مدينة "حَديثة" وهناك وصل عمري لــ 35 عاماً، صارت لهجتي عراقية - بغدادية، بقيت ذكرى دير الزور وأمي وأبي وأخوتي في قلبي، أراهم في كل مكان، مضت الأيام ومر العمر، تزوجت بفتاة عراقية، وعملت بشركة هناك، وعشت الحصار والحرب، ومضت الأيام، رُزقت بأبناء وبنات، كنت أدخل غرفتي وعيوني على تلك الحقيبة التي جائتني من حلب ذات يوم، لم أرغب أن أُخرج ملابسي منها، كانت حقيبتي دوماً مُحضرة للسفر من ذلك التاريخ، مضت 25 عاماً، وتزوج أبني الأكبر، توفيت زوجتي، توفيت أمي وتوفي والدي قبلها، منذ سنوات، لكن كنتُ اعلم يقيناً أن حكم الأسد سيزول ولو بتدخل الموت، مات حافظ وكم فرحت يومها، وثار الشعب السوري 2011 وكان أجمل يوم عشتهُ بحياتي، أشكر الله أني عشت لأشاهد ذاك اليوم، ورجعت لبلدي وبيدي حقيبتي تلك التي خرجت بها من سوريا، ومررت بالبوكمال، والعشارة، والميادين، وصلت مدينتي وسجدت طويلاً على ترابها، دخلت حارتي وتغيرت الوجوه، والأماكن، حتى منزل أبي تغير، رحل أبي وأمي وأخي الاكبر، لم أعرف أحداً ممن تبقى من أقاربي ، أتمنى أن تنتصر الثورة لكي لا يذوق أحد مرارة التشرد واللجوء».

مضت الأيام وجاء تنظيم داعش وغادر الحاج (ح ع) دير الزور بعد تضييق التنظيم على الناس، توجه يومها نحو تركيا، في رحلة غربة أخرى، من سخرية القدر، كان حاضراً على أحداث العام 2015 و 2017 وشاهداً على تغريبة أهله مرة أخرى بعد اجتياح النظام للشامية بدير الزور، توفي منذ عامين ودفن في أورفا - في ترڪيا، لم يُدفن قرب أمهِ وأبيه كما أوصى، كانت حياته غربة، وتغريبة، يروي لي أحد أقاربه ممن كان معه في تركيا، ان الحاج رحمه الله كان يردد دوماً عبارة: «أنها قضية طويلة وستدوم الغربة أعواماً، أفتحوا حقائبكم، تلك عائلة مجرمين، ما اصابنا بالثمانيات، سينالكم اليوم»، غادر يوم خروجه من دير الزور حاملاً ذات الحقيبة التي هاجر فيها بالثمانيات، كانت أغلى مايملك. 







تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

نظرة مبسطة لمجريات البادية

حصيلة البادية لشهر مارس 2024

تقرير البادية لشهر فبراير 2024

حصيلة أحداث شهر أبريل في البادية

الفطر القاتل "الكمأة"

خلافة من ورق - التيارات المتصارعة داخل التنظيم