عن الأمل ذات يوم

‏بعيداً عن السياسة وليس بعيداً جداً، وتحت سماءٍ صافية ونسيمٍ عليل، لايكدرهُ سوى رائحة النفط المكرر العابر للفرات الحزين والقادم من بلاد الجزيرة في الضفة المقابلة، اسرح بخيالي بعيداً فوق سطح منزل جدي القديم على صوت فؤاد سالم وكلماته التي تلامسُ الروح ..‏استعيد ذكريات ماضٍ لن يعود، ضحكات رفاق واخوة رحلوا ولن يعود اغلبهم، وابتسامات ونظرات محبين لن تُنسى ! كلما حاولت التفاؤل يعمل ذاك العقل الباطن ويعيدني لواقعي الأليم منادياً: لازالتَ طريداً بلا وطن لاتحلم كثيراً حتى الاحلام ليست متاحه في هكذا واقع ، خلال ايامي التي وصلت لمنتصف الثلاثين، حاولت اختزال اصعب المشاهد التي مرت علي ماذا كانت، كانت بالمئات .. اقسم ..
لكن اقساها يمكنني اختيار ثلاثة منها لو كنتُ مجبورا على ذكر اقسى (3) مشاهد منها .. 

الاول كانت في اواخر العام 2016 حينما لوحقت من قبل تنظيم داعش، تمكنت من النجاة ..‏بأعجوبة وصلت مدينة اعزاز، نزلت في احد الفنادق هناك بعد رحلة شاقة، وانا اتمشى في احد شوارعها لفتني منظر طفل صغير لم يتجاوز السادسة يدهُ كانت مقطوعه ويركض حافيا مع مجموعة اطفال، كسر المنظر قلبي كوني شخص عاطفي جداً، تبعتهم كانوا يلعبون الكرة في ساحة واسعة تتوسطها سيارة قديمة واقفه، ‏لازلت اتذكر تلك التفاصيل بعناية لدي ذاكرة مولعة بالتفاصيل وتحب بالمأسي ولاتنساها، لم يشركوه في اللعبة مع ان اطفالا بجيله كانوا يلعبون معهم، طردهُ طفل سمين قليلا كان اكبر منه، عاد "عمر" باكيا ووقف عند تلك السيارة، كانت دموعه تنهال بغزاره لانه قد تم طرده، كنت اشاهد دون تدخل فجأة تبعته طفله صغيرة اكبر منه قليلا، حضنتهُ وتحدثت اليه واخذته نحو المكان الذي كنت اجلس فيه متفرجاً على تلك المباراة العفوية، ولكن قلبي ونظراتي كانت صوب ذاك الطفل، قالت له عدة كلمات ثم صمت، وعادت هي تكمل لعبتها مع الاولاد ، جلست قربهُ تكلمت معهُ :
- ليش تبكي عمي
- ما خلوني العب‏- ليش ماخلوك ؟
- قال انت تظلك تنخبط وماتقدر تلعب 
(يده المقطوعه كانت لاتساعده)  

اكمل عندها كلامه بعباره قتلتني في الصميم : اختي قالت لي بكرة بس اكبر رح تلعب معهم ، بس تطيب ايدي !!

- تطيب ؟

- اي بكرة ايدي ترجع مثل زمان واقدر العب معهم ..‏كلمات اصابتني في مقتل، ان يكون لدى طفل حلم مستحيل التحقق هكذا ..

صعقتني كلماتهُ، دمعت عيناي قليلاً، من النادر جدا ان يبكيني شئ، اخر مرة كنت قد بكيت فيها كانت منذ سنوات .. 

لم استطع تمالك نفسي، مر جنبي طفل يبيع الدخان ، ناديتهُ، سألتهُ عن عمر ما قصتهُ ؟

ياليتني لم أسأل ..‏انه نازح من حمص قصفت طائرة منزلهم توفي والديه، ويعيش مع جدته وخالته وخاله في مخيم للنازحين ملاصق لأعزاز، شظية قطعت يده وقتلت امهُ، بينما والده توفي في قصف اخر قبل والدته، فقدوا كل شئ ونزحوا الى هنا ..

انهم اناس بسطاء تلك هي جدته جائت لتأخذهم فقد قاربت الشمس على الغروب .. 

‏لازالت صورة عمر في مخيلتي لليوم، لااؤمن بالمعجزات ولا بتحقق الاحلام ليست سوادوية مني، لكن واقعنا يفوق سقف احلامنا، نحن شعب محكومون بالأمل ..كما قال ونوس يوماً ..

لازلت اتذكر عبارة من فيلم :
The Shawshank Redemption

‏الامل شئ قاتل احيانا .. 

- انه قاتل في امور منطقيا لن تتحقق مهما حلمنا بها .. 

انه كذراع عمر التي لن تنبت من جديد، وهو كتلك المباراة التي يحلم ان يشارك بها يوما .. 

كم اتمنى لو يستطيع ان يلعب يوما حارساً حتى وبيديه الاثنين التي حرمه منهما قذيفة من جيش بربري قائده مجرم ..‏ان احلامنا باتت في هكذا مكان كأحلام كلب يحلم ان يشاهد قوس قزح .. لكنه لن يستطيع ذلك لان الكلاب لاترى فقط الاسود والابيض .. 

(رواية قرأتها منذ زمن ) 

يتبع في يوم ما  .. 

زين العابدين 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

نظرة مبسطة لمجريات البادية

حصيلة البادية لشهر مارس 2024

تقرير البادية لشهر فبراير 2024

حصيلة أحداث شهر أبريل في البادية

الفطر القاتل "الكمأة"

خلافة من ورق - التيارات المتصارعة داخل التنظيم